سورية في سياق المصادرة السياسية

سورية في سياق المصادرة السياسية

سوريا في سياق المصادرة السياسية

الأسئلة الكثيرة عن مآل الأزمة السورية والحل السياسي المتعثّر هي نوع من التسليم بالمجهول، والقبول به قدر لا مفر منه، قَبول ملتبس بين القناعة السياسية والقناعة الأخلاقية، باعتبارهما في هذه الأزمة خطين متوازيين مهما امتدا لا يلتقيان، ولم يبق بأجندة أيٍّ منهما وجودٌ لهوية الوطن السوري جغرافياً وثقافياً وديموغرافياً، فخرائط سايكس- بيكو لا غبار عليها سياسياً وأخلاقياً، لكنها ليست مقدسة لتتربع قرناً كاملاً فوق صدر الشرق الأوسط، وقد تحوّلت إلى أطلال على يد الدواعش ومن لفّ لفَّهم، أو استثمرهم كسفينة نجاة في هذا الخضم المتلاطم من الفوضى السياسية والعسكرية. وثقافياً وجهت الإخونجية الفكرية (المستوردة) الضربة القاضية للتعددية الثقافية في سورية، أما ديموغرافياً فالهويات والخرائط الجديدة (المتطورة؟) تحترم الواقعية السياسية اللاأخلاقية، بألوانها المذهبية والقومية والقبلية والعشائرية والعرقية؟
يكثر التساؤل عن الصيغة الدستورية التي يتم العمل عليها لدولة الدويلات الجديدة، (وكثير من السؤال اشتياق) وتأهب لترويض الذات على التعامل مع جرعة مبتكرة من فضاء دستوري ضبابي، بقناعة سياسية يصعب اعتبارها أخلاقية في مماحكات المصالح الإقليمية والدولية. هذا لا يعني أن الحل على الأبواب حتى لو كان جاهزاً، لأن الدخان الأبيض لا ينطلق عاجلاً أم آجلاً، إلا من الثنائية القطبية التي لا وجود للقناعة الأخلاقية في تأمين مصالحها، ولن يكون بديلاً أيُّ دخان يطلقه الحلف الثلاثي الروسي- الإيراني- التركي، استناداً إلى خرائط اتفاقيات تخفيض التصعيد التي ما زال بعضها قيد الإنجاز في الشمال والجنوب!
كان الحل الروسي بكامل هندامه وأناقته يستعد للذهاب مختالاً إلى منتجع سوتشي غير مبالٍ باستفزاز معارضات الخارج، لكن قمة بوتين ترامب في فيتنام أوقفته حيث كان، وأحدثت منعطفاً على خط السير إليه بإشراف موسكو طبعاً، إنما تحت المجهر الأميركي الأممي ليصب من ثم في مفاوضات جنيف جديدة يفترض أن تكون (سياسية) لا سياحية كما عهدناها على امتداد الجولات السابقة.
صحيح أن واشنطن حمت مؤتمر جنيف من ضربة موسكو القاضية، لكنه لن يكون بمأمن من شيطنة لافروف في اختراع المسارات الجانبية لإفشاله، واحتواء النبرة الأميركية الطارئة في المساومات الإقليمية والدولية.
أما المبعوث الدولي الذي تقلقه منصة سوتشي المستحدثة، فقد أثلج صدره بيان القمة الثلاثية بتجيير الحل النهائي إلى مفاوضات جنيف مهما تعددت المنصات. وزاده اطمئناناً تحقيق حلمه بتوحيد وفد المعارضة إلى مؤتمر جنيف، وأغلب الظن أن قاطرة سد ذرائع الطرفين التي استقلّها دي ميستورا وبدأ يحركها ما تزال في أولى محطاتها!
وبما أن الحل السياسي بقرار الأمم المتحدة 2254 مُختَلفٌ على تفسيره وتأويله بين الطرفين، ويصعب تفسيره وتأويله أممياً طالما القطبية الثنائية تتفاقم تعقيدات مصالحها في معركة مصادرة النتائج، إذاً لماذا هذه الجولة المرتجلة من مؤتمر جنيف؟ ما لم تكن لإعطاء مزيد من الوقت للقطبية الثنائية كي تنجز مساوماتها الدولية، في زمن صعب لا وجود فيه للحلول بالتراضي، بل بالمناقصات السياسية والاقتصادية التي تختلف واشنطن وموسكو على دفاتر شروطها الفنية والمالية بعد اقتحام موسكو للأسواق العربية مستغلةً وعود ترامب الخُلّبية في مواجهة التمدُّد الإيراني، ويحاول استدراك تقصيره بالملف السوري الساخن وعينه على إيران؟
الزخم السياسي الإقليمي والدولي الذي استقطبته المعضلة السورية خلال الأسابيع المنصرمة، يُفترض أن لا يمر بلا مرتسمات سلبية أو إيجابية على ارض الصراع، لكن العراقيل لا تُطمئن، ومخرجات هذا الزخم حتى الآن سلبية بما فيها العودة إلى مفاوضات جنيف بهذه الصيغة اللامجدية، وإعلان جيمس ماتيس بنبرة تحذيرية عن استمرار الوجود العسكري الأميركي بعد «داعش»، وهذا كان متوقعاً، لكن النبرة والتوقيت غيَّرتا كثيراً في اتجاهات الزخم السياسي، وأعادتا، بل أبقتا حل الأزمة في المربع الأول؟ وزادت حدة الجدل حول التمدُّد الإيراني، واستمرار الدعم العسكري لقوات سورية الديموقراطية لترويض أردوغان أميركياً بما لا يمس بميوله الإخونجية؟ الموقف الأميركي المستجد متوقع ليس فقط لتخليص التفاوض من قبضة آستانة، وسوتشي المحدثة، وإعادته إلى مؤتمر جنيف الذي فجأةً التفتت إليه واشنطن بطريقتها الاستعراضية، بل هو رسالة واضحة قرأتها جيداً طهران وأنقرة ودمشق، واستحضرتها روسيا في قمتها مع إيران وتركيا لتخفيض حجم وجودهما في سورية، وحتماً في الضغط على حليفها الرئيس الأسد لتمرير حل يحفظ ماء الوجه للأطراف المنخرطة في الأزمة السورية. لكن أردوغان تحدّى مضمون الرسالة وها هو يتأهب لدخول عفرين، وربما ريف حلب، إذ لم ولن تتوضح قوة الاندفاع الروسية في الضغط على حلفائها ما لم تُردم الفجوة بين طرفي القطبية الثنائية في حجم استثمار كل منهما للتسوية سياسياً على المستويين الإقليمي والدولي، ولذلك لم تختلف جولة جنيف الثامنة عن سابقاتها السياحية لا السياسية.
مع ذلك ستبقى كل الخطوط التفاوضية (جنيف وآستانة وسوتشي) قيد التداول، ومؤتمر جنيف لا تستقيم أموره ما لم تصب فيه مُخرَجات هاتيك الخطوط، وريثما تستقر التوازنات في ضوء المساومات لا يُستغنى عن خدمات تنظيمي «داعش» و «النصرة»، اللذيْن قد يُستدعيان في أيّ لحظة، لتُشنّ عليهما، وبهما، حربُ المصادرة السياسية التي سبق إليها وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، ولحق به أردوغان بطرحه عفرين وحلب، وأظن (وبعض الظن إثم) أن استمرار حال اللاحرب واللاحل قد تكون نقطة التقاطع الوحيدة التي يمكن الاتفاق عليها مرحلياً، ويستمر السعيُ السياسي لتجاوزها!
* كاتب سوري.

m2pack.biz