شادية رحلت… زد نجمة على اللائحة

شادية رحلت… زد نجمة على اللائحة

شادية رحلت… زد نجمة على اللائحة

برحيل شادية وضعنا، نحن محبي سينما الأسود والأبيض المصرية، نهاية أخرى لجيل النجوم الذي كانت هي واحدة من بطلاته. أقول «نهاية أخرى» لأننا، مع رحيل كل من رحل من فناني ذلك الجيل، كنا نعود إلى العدّ التنازلي لإحصاء الذين ما زالوا منه على قيد الحياة.
بهذا نكون نسرع في أن نترقّب، متخوّفين، أن يصير هذا الجيل جيلا من الماضي، شأن الشوام مثلا الذين قصدوا مصر في أواخر القرن التاسع عشر لينشئوا فيها الصحف. لم يحصل ذلك بعد، فمن نجوم الابيض والأسود في مصر مَن ما زالوا أحياء، مثل حسن يوسف. وإذ كنا ما نزال متعلّقين بهذه السينما، ونحرص على متابعة مشاهد من أفلامها قبل النوم، نخاف أن نجري عليهم ذاك الإحصاء لنصل مثلا، فيما نحن نشاهد «سيدة القصر»، أن نجوم هذا الفيلم ماتوا جميعا، من عمر الشريف إلى فاتن حمامة إلى ستيفان روستي وزوزو نبيل وفردوس محمد… إلخ. نخاف لأنهم نجومنا، نجوم جيلنا، ونحن من دونهم، سنكون جمهور الماضي الذي لم يعد أحد حيّا من فنانيه.
مقريّن مع ذاك بأنهم جيل خالد. هذه شادية مثلا، المتوقّفة عن التمثيل والغناء من ثلاثين عاما، ظلّت حاضرة في أفلامها وأغنياتها، وهذا عبد المنعم إبراهيم عاد ليضحكنا الآن، بعد سنوات من رحيله، وذلك بعدما كنا نظن أن عبد السلام النابلسي هو نجمنا الكوميدي الأول. ثم رشدي أباظة الذي لم يُستبدل بعد بممثّل آخر يكون مثال الرجولة من بعده. لم يحظ ممثّل بما حظوا هم به، أو ربما هذا ما نفكّر فيه نحن، جيل جمهورهم حيث أننا نظن أن ممثلا مثل عادل إمام، الأكثر شهرة الآن، ليس إلا ممثّلا ثانويا تمكّن من الوصول إلى القمة.
ذاك لأنه هكذا بدأ، ممثّلا مرافقا لفؤاد المهندس، ولأننا أبناء ذاك الجيل، نميل إلى إبقائه هناك، أو على الأقلّ بقينا نتذكّر أنه كان هناك في ما نحن نشاهد تألّقه في أدواره السينمائية والمسرحية. أما عماد حمدي وشكري سرحان وفريد شوقي فلم يأتوا من بداية، بل هم كانوا حاضرين الحضور الكامل التام، كما نتذكّرهم الآن. هم خالدون، لا أحسب أنه بقي شيء سواهم في مخيّلة الجمهور العربي. لقد استحوذوا على ماضيه بقوة ما زالت تتردّد إلى حدّ أن الأقنية التلفزيونية ما زالت تغلّب أفلامهم على الأفلام التي أدت أدوارها أجيال سينمائية أعقبتهم. ليس لأننا ما زلنا نقول، فيما نحن نمجّد أفلام ذلك الزمن، بأن التصوير كان أفضل مما صار إليه في العقود اللاحقة، أو نقول، مخاطبا أحدنا الآخر، أما ترى أن ألوان الأسود والأبيض ظلّت قوية ناصعة، بينما الأفلام التي تبعت بهتت ألوانها؟ أو نخاطب من هم معنا في السهرة التلفزيونية، «ألا ترون الإخراج كيف هو، وكذلك الاعتناء برسم الشخصيات؟»
أفلامهم بالأبيض والأسود ما زالت تدعونا إلى مشاهدتها، فنُقبِل، على الرغم من أننا كنا شاهدنا ما ننتظر مشاهدته مرّات كثيرة. نعرف أن تلك الأفلام لن تفاجئنا بشيء، لكننا مع ذلك نظلّ متعلّقين بها، ذاك لأننا نحتاجها. ذلك الماضي الجميل كما يسمّى، نحتاجه. ولا شيء يمكن أن يأتي به إلينا مثلما تأتينا به تلك السينما. رجال الماضي ونساؤه ما زالوا حاضرين لنا، بأصواتهم ذاتها، بنظراتهم إياها، بالدفء إياه، الدفء الغرامي الباقي من خمسين سنة، حين التقط عبد الحليم حافظ يد لبنى عبد العزيز وهما يمشيان على الطريق، ثم عبد الحليم وهو يغني بكل العاطفية التي بات يندر وجودها في الأزمنة اللاحقة. أفلام الأبيض والأسود تأتي لنا بالزمن الماضي كاملا تاما. ليس علينا أن نتشوّش حيال ما نرى، أو أن نساعد ذاكرتنا على التذكّر مثلما يحصل لنا عندما نستعيد مشاهد من طفولتنا الحية، وأن نضع صورا في مكان صور، بل أن نشاهد في السينما، بل نعيش، ما كنا شاهدناه وعشناه في أيام الصبا كاملا لم ينقص.
واتفاقا مع ما كان كتبه إيتالو كالفينو في يومياته عن أن العالم يبدو متناسقا في السينما ومفهوما، فيما هو، حسب ما يجري في الحياة، فوضوي غير مفهوم كأنه يجري بلا قاعدة، هكذا تستعاد فينا السينما العربية. ما نقلته كان صورا مكرّرة عن الأخيار والأشرار، وعن الفقراء والأغنياء، والعشاق والعذّال، إلخ. لكن ذلك كان متسقا في وقت ما كان مبهرا.
لذلك تبدو تلك السينما، سينما شادية وعماد حمدي، منجى لنا من تكسّر زمننا وبؤسه وانهياره. إنها عالمنا البديل، الاحتياطي، كما كتب كالفينو. إنها تعيدنا إلى شوارع القاهرة حيث المارة قليلون وليس على الطريق إلا سيارة واحدة، وبنات عاشقات يعشن في قصور، وبنات أخريات يكرّرن حكاية سندريلا الفقيرة ضاربات عرض الحائط بمفاعيل الصراع الطبقي وأمثولاته. سنتذكر شادية، مرّة وهي بمفردها نجمة في التمثيل والغناء، ومرّة أخرى وسط أولئك الرجال والنساء الذين أدّت معهم ذلك الاحتفال الأكثر بقاء وديمومة في حياتنا: سينمانا بالأسود والأبيض.
٭ روائي لبناني

m2pack.biz