في مديح المدينة العريقة

في مديح المدينة العريقة

في مديح المدينة العريقة

تريث عند أي مشهد في المدينة العريقة، ستجد ما يغري النظر ويدعو للنفاذ إلى الأعماق.
كل جزء من المدينة يحتفظ بمكانه ومكانته بالقدر الذي يتآلف فيه مع الجزء الآخر. بلاطة الرصيف تستقبل زخة المطر وتسكبها على اسفلت الشارع الذي يحولها إلى فتحة الصرف، فتندفع المياه إليها بعزيمة وكأنها عائدة إلى بيتها. عمود الإنارة، وإلى جانب ما يقدمه من عون للسائقين، يلقي شعاعا على واجهة المسرح فتلمع صورة الممثل فتعشقه أعين المارة فيستمر عمل المسرح. وساعة الميدان تنفض دقاتها على البلاط والإسفلت ويدوّم في فتحة الصرف وينطفئ ضوء العامود، وعلى ضوء النهار يكتشف رواد المسرح الخدعة ويأتي رواد جدد.
الدم يسري في أوصال المدينة. ينتقل من الجامعة إلى مبنى البلدية ومحطة الباصات، ومن كشك الصحف والمطاعم العائمة إلى بيوت المسنين ونوادي الليل وما إلى ذلك من كيان المدينة العريقة. وحين ينفر الدم من الأوصال ، يغسله المطر وتستقبله فتحة الصرف في الشوارع.
تفسح المدينة مكانا وهامشا للآهلين والقادمين، وضيفتها توزيع الوظائف لكل من يدخل في نطاقها. لا تغفل عن أحد ولا أحد فيها بلا عمل.
إن الأمواج الهادرة من العاطلين عن العمل تعبر شوارع المدينة، ترفع الشعارات المطالبة وتؤلف الأناشيد المنددة، ولكنها لا تني ترتد إلى المدينة، تلوذ بحياضها وتشتكي إليها ظلم الظالمين.
المدينة وطن. وإن لم تكن وطنا فهي بلا شك قاعة انتظار في مطار.
منذ أول حجر وضع لها والمدينة تسعى لبلوغ الكمال. الناس وحياتهم فيها، وظائفهم وعطالتهم، مشاريعهم الواقعية واللاواقعية، أحلامهم ومغامراتهم، كل ذلك يهيئ للمدينة خطاطة عملها اليومي المستمر.
ثمة عدوى مباشرة بين السكان والمدينة. إن الضعف الذي ينتاب المهن والنقابات وغير ذلك من اشتغالات الناس يظهر جليا على وجه المدينة… فلا تعود البلاطة مكترثة بالشارع ويتخاصم الماء مع حفرة المجاري ويتبع ذلك وهن يصيب الرابطة المدنية بين السكان.
ولا سبيل أمام المدينة (لتكون جديرة بهذا الاسم، شكلا ومعنى) سوى تلبية حاجة الكائنات التي تعيش في نطاقها وإشباع رغباتهم بل وتمكينهم من السير خلف أهوائهم.
في البدء تقيدت المدينة بنهج مؤسسيها وتشكلت لبناتها من فيض إلهامهم، أولئك الذين اختاروا المكان ووضعوا حجر الأساس لحياة قادمة. ولكنها كبرت وعاشت التجارب وتخطت المراحل وصار لها قلب يرتجع خفقانه في الحجر والبشر.
وليس للمدينة العريقة والكبيرة (بقلبها لا بحجمها) سلطة من أحد واحد أو من عشيرة طاغية، فهي وبعد أن تربعت على الأرض وآمنت لأديمها، وبعد أن خبرت الأنواء وحفظت عادات مداراتها الفضائية، بعد أن شهدت حركة الأجيال وتعاقبها، وبعد أن تحررت من عقدة العتق والجدة، بكلمة واحدة حين شبت عن الطوق ونضجت، أصبحت حِلا من الالتزام بسلطة فردية أو عشائرية وصارت تتبع ناموسا مدونا بأحرف الحياة.
إنها تفرش الحياة للسكان (المقيمين والوافدين) وتعلمهم طريقة المشي.
تعتني المدينة بنفسها وتعمل على إبداء محاسنها ولكنها لا تبتذل وتتبرج؛ فكلما تكدس لديها شيء من عطايا الأيام وزينة التاريخ، طوته في متاحفها، وهي خزائنها العتيقة.
تلك البناية الضخمة التي تنازلت عن قطعة من هامتها لتسهيل حركة المارة قد أبرمت ميثاق شرف بين الحجر والبشر. ومن صور المدينة العريقة أيضا: البرلمان الوقور الذي منح نافورته للأطفال ومد حديقته للأقدام اللاهية. قبعة الشحاذ فاغرة على سلم المكتبة العامة. الطيور تشرب من بحيرة مبنى البلدية والكلب المشرد ينام في حرم الجامعة. العجوز المتقاعد يزاول هوايته في صيد السمك من بحيرة الشركة الكبرى، كل يوم وفي نفس المكان. عامل النظافة يحمل جهازا يكشف عن ذرات الزجاج في رمل الشاطئ والمشرد السكير يكسر زجاج الحانة ليحظى بأيام أخرى في الحبس. عرض الباليه الجديد يُحيي قصص الجدات والرسام يبيع لوحته قبل اكتمالها. أما موظف الدرجة العاشرة فيسّري عن نفسه بالمشي على رصيف النهر أو مراقبة الإعلانات الجديدة أو الولوج إلى المكتبة العامة بعد أن يرمي إلى قبعة الشحاذ بالعملة النقدية الأخيرة المتبقية من راتبه، رمية شاقولية موفقة.
*كاتب عُماني
a.alrahbi@ymail.com

m2pack.biz